تحية لأبي رقراق
ينفلت الوادي من رحم المجهول البعيد، يزحف حاملا معه أثقالا شتى من الزمن و من الجغرافيا...ومن الأحاسيس و الصور و الروائح المبعثرة هنا و هناك، عبر مسيرته التي لم تنجح توالي السنون و الأيام أن تزحزحها من مكانها، حتى صار الوادي هو المكان نفسه، بوجوده فقط يتحقق وجود المكان و تتضح ملامحه و تعرف صفاته...
ألجأ إليه حينما تهفو نفسي إلى لحظة صفاء و رقة...و أيضا حينما أحتاج إلى قبس من لهب يبعث في رماد نفسي تلك الرغبة الحارقة في الإبداع و الخلق...
أرقب واد أبي رقراق من عل، من أسوار الأوداية...تغرب الشمس فتلقي ببقايا روحها على سطحه فتحيله إبريزا ساطعا...و بعض مصابيح ترتجي هي الأخرى قربه فتنعكس عليه خضراء ربيعية...تواصل الشمس وداعها الحزين للوادي الخالد، الذي يواصل عبثه المنساب، ففي طلوع القمر بعد حين خير سلوى و خير نديم ...فأستغرب كيف يتخذه العشاق المتناثرون بين جنباته و عبر امتداده شاهدا على حبهم و هو الماجن العابث، زير الشمس و القمر...
أتملى صفحة و جهه...شفافة إلى حد العدم، تعكس كل الموجودات حو له: أنوار، نتوءات، صور، وجوه، ألوان... هي الحضور و الغياب، حضور الآخر و غياب الأنا، وذلك حال كل محب عاشق...
يأسرك الوادي من أول لحظة، يمتلك تلك القدرة العجيبة في كسر كل الحواجز التي تضعها لتحمي و تؤكد عزلتك، تجدها تتهاوى تاركة المجال لنوع آسر من الحميمية الناعمة، تجد نفسك تبوح بما يشغلك، تبث شكواك و الوادي لك مستمع متفهم، بل تكاد تجزم في أحيان كثيرة أنك تلمح ثغره الباسم و تسمع كلماته العذبة تنزل على فؤادك بردا و سلاما، ناصحة أحيانا و مشجعة أحيانا أخرى، و قط لن تسمعها معاتبة متذمرة...
أعترف أن صداقتي للوادي هي حديثة عهد، فأنا لم أتعرف عليه إلا بداية السنة، رغم أني في المدينة منذ أربع سنوات...و كالعادة في كل الأشياء الجميلة التي أتعرف عليها، تكون الأنثى هي سبب و أصل المعرفة، فهي الخالقة في عالمي و هي أصل كل شيء جميل ، قادتني إلى حيث ذاب جمالها في جماله، كنت أسير كيان واحد محدود فأصبحت أسير خلود جبار لا أدري له بداية و لا نهاية...
عز الدين